فصل: الآية رقم ‏(‏149 ‏:‏ 160‏)

مساءً 10 :10
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة الصافات

مقدمة

روى النسائي، عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 5‏)‏

‏{‏ والصافات صفا ‏.‏ فالزاجرات زجرا ‏.‏ فالتاليات ذكرا ‏.‏ إن إلهكم لواحد ‏.‏ رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ‏}‏

قال ابن مسعود رضي اللّه عنه ‏{‏والصافات صفاً‏}‏، ‏{‏فالزاجرات زجراً‏}‏، ‏{‏فالتاليات ذكراً‏}‏‏:‏ هي الملائكة ‏"‏وهو قول ابن عباس ومسروق وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وقتادة وغيرهم‏"‏؛ وقال قتادة‏:‏ الملائكة صفوف في السماء، روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي اللّه

عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا تصفّون كما تصف الملائكة عند ربهم‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ وكيف تصف الملائكة عند ربهم‏؟‏ قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصّون في الصف‏)‏ ‏"‏وفي صحيح مسلم أيضاً ‏(‏فضلنا على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة‏)‏ الحديث‏"‏‏.‏ وقال السدي معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالزاجرات زجراً‏}‏‏:‏ أنها تزجر السحاب، وقال الربيع بن أنَس ‏{‏فالزاجرات زجراً‏}‏‏:‏ ما زجر اللّه تعالى عنه في القرآن، ‏{‏فالتاليات ذكراً‏}‏ قال السدي‏:‏ الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند اللّه إلى الناس، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالملقيات ذكراً * عذراً أو نذراً‏}‏، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏إن إلهكم لواحد رب السماوات والأرض‏}‏، هذا هو المقسم عليه أنه تعالى لا إله إلا هو رب السماوات والأرض ‏{‏وما بينهما‏}‏ أي من المخلوقات، ‏{‏ورب المشارق‏}‏ أي هو المالك المتصرف في الخلق، بتسخيره بما فيه من كواكب تبدو من المشرق وتغرب من المغرب، واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليه، وقد صرح بذلك في قوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون‏}‏، وقال تعالى ‏{‏رب المشرقين ورب المغربين‏}‏ يعني في الشتاء والصيف، للشمس والقمر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏6 ‏:‏ 10‏)‏

‏{‏ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ‏.‏ وحفظا من كل شيطان مارد ‏.‏ لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب ‏.‏ دحورا ولهم عذاب واصب ‏.‏ إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ‏}‏

يخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض بزينة الكواكب، فالكواكب السيارة والثوابت تضيء لأهل الأرض، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين‏}‏، وقال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم‏}‏، فقوله جلَّ وعلا ههنا ‏{‏وحفظاً‏}‏ تقديره‏:‏ وحفظناها حفظاً ‏{‏من كل شيطان مارد‏}‏ يعني المتمرد العاتي، إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه، ولهذا قال جلَّ جلاله‏:‏ ‏{‏لا يسّمعون إلى الملأ الأعلى‏}‏ أي لئلا يصلوا إلى ‏{‏الملأ الأعلى‏}‏ وهي السماوات ومن فيها من الملائكة، كما تقدم بيان ذلك، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقذفون‏}‏ أي يرمون ‏{‏من كل جانب‏}‏ أي من كل جهة يقصدون السماء منها، ‏{‏دحوراً‏}‏ أي رجماً يدحرون به ويزجرون، ويمنعون من الوصول إلى ذلك ويرجمون، ‏{‏ولهم عذاب واصب‏}‏ أي في الدار الآخرة، لهم عذاب دائم موجع مستمر، كما قال جلّت عظمته‏:‏ ‏{‏وأعتدنا لهم عذاب السعير‏}‏، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إلا من خطف الخطفة‏}‏ أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة، وهي الكلمة يسمعها من السماء، فيلقيها إلى الذي تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه، فيذهب بها الآخر إلى الكاهن، كما تقدم في الحديث، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب‏}‏ أي مستنير، قال ابن عباس‏:‏ كان للشياطين مقاعد في السماء، فكانوا يستمعون الوحي، وكانت النجوم لا تجري، وكانت الشياطين لا ترمي، فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض، فزادوا في الكلمة تسعاً، فلما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، جعل الشيطان إذا قعد مقعده جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه، فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه اللّه، فقال‏:‏ ما هو إلا من أمرٍ حدّث، فبعث جنوده، فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائم يصلي بين جبلي نخلة، قال وكيع‏:‏ يعني بطن نخلة، قال‏:‏ فرجعوا إلى إبليس، فأخبروه، فقال‏:‏ هذا الذي حدث ‏"‏أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏11 ‏:‏ 19‏)‏

‏{‏ فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب ‏.‏بل عجبت ويسخرون ‏.‏ وإذا ذكروا لا يذكرون ‏.‏ وإذا رأوا آية يستسخرون ‏.‏ وقالوا إن هذا إلا سحر مبين ‏.‏ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ‏.‏ أو آباؤنا الأولون ‏.‏ قل نعم وأنتم داخرون ‏.‏ فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيما أشد خلقاً هم أم السماوات والأرض، وما بينهما

من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة‏؟‏ فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقاً منهم، وإذا كان الأمر كذلك فلم ينكرون البعث‏؟‏ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا، كما قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ ثم بيَّن أنهم خلقوا من شيء ضعيف فقال‏:‏ ‏{‏إنا خلقناهم من طين لازب‏}‏ قال مجاهد والضحّاك‏:‏ هو الجيد الذي يلتزق بعضه ببعض، وقال ابن عباس وعكرمة‏:‏ هو اللزج الجيد، وقال قتادة‏:‏ هو الذي يلزق باليد، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏بل عجبت ويسخرون‏}‏ أي بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث، وأنت موقن مصدق بما أخبر اللّه تعالى من الأمر العجيب، وهو إعادة الأجسام بعد فنائها، وهم بخلاف أمرك من شدة تكذيبهم يسخرون مما تقول لهم من ذلك، قال قتادة‏:‏ عجب محمد صلى اللّه عليه وسلم وسخر ضلاّل بني آدم، ‏{‏وإذا رأوا آية‏}‏ أي دلالة واضحة على ذلك ‏{‏يستسخرون‏}‏، قال مجاهد‏:‏ يستهزئون، ‏{‏وقالوا إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين، ‏{‏أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون * أو آباؤنا الأولون‏}‏‏؟‏ يستبعدون ذلك ويكذبون به ‏{‏قل نعم وأنتم داخرون‏}‏، أي قل لهم يا محمد‏:‏ نعم تبعثون يوم القيامة بعدما تصيرون تراباً وعظاماً، ‏{‏وأنتم داخرون‏}‏ أي حقيرون تحت القدرة العظيمة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكل أتوه داخرين‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سيدخلون جهنم داخرين‏}‏، ثم قال جلت عظمته‏:‏ ‏{‏فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون‏}‏ أي فإنما هو أمر واحد من اللّه عزَّ وجلَّ، يدعوهم أن يخرجوا من الأرض، فإذا هم قيام بين يديه ينظرون إلى أهوال يوم القيامة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏20 ‏:‏ 26‏)‏

‏{‏ وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين ‏.‏ هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ‏.‏ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون ‏.‏ من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ‏.‏ وقفوهم إنهم مسؤولون ‏.‏ ما لكم لا تناصرون ‏.‏ بل هم اليوم مستسلمون ‏}‏

يخبر تعالى عن قيل الكفار يوم القيامة، أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة، ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم، فإذا عاينوا أهوال القيامة، ندموا كل الندامة حيث لا ينفعهم الندم، ‏{‏وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين‏}‏، فتقول لهم الملائكة والمؤمنون‏:‏ ‏{‏هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون‏}‏ على وجه التقريع والتوبيخ، ويأمر اللّه تعالى الملائكة أن تميز الكفار من المؤمنين، في الموقف في محشرهم ومنشرهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظلموا وأزواجهم‏}‏، قال النعمان بن بشير‏:‏ يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وأبو العالية وغيرهم‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏أزواجهم‏}‏ نساؤهم، وهو غريب والمعروف عنه الأول ؛ وعن عمر بن الخطاب‏:‏ ‏{‏وأزواجهم‏}‏ قال‏:‏ إخوانهم، وقال النعمان‏:‏ سمعت عمر يقول‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظلموا وأزواجهم‏}‏ قال‏:‏ أشباههم، قال‏:‏ يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا، وأصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏أزواجهم‏}‏ قرناءهم، ‏{‏وما كانوا يعبدون من دون اللّه‏}‏ أي من الأصنام والأنداد تحشر معهم في أماكنهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ أي أرشدوهم إلى طريق جهنم، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مأواهم جهنم كلما خبت زنادهم سعيراً‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقفوهم إنهم مسؤولون‏}‏ أي قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم، التي صدرت عنهم في الدار الدنيا، قال

ابن عباس‏:‏ يعني احبسوهم إنهم محاسبون، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيما داع دعا إلى شيء كان موقوفاً معه إلى يوم القيامة لا يغادره ولا يفارقه، وإن دعا رجل رجلاً‏)‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وقفوهم إنهم مسؤولون‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم وابن جرير والترمذي عن أنَس بن مالك مرفوعاً‏"‏، وقال ابن المبارك‏:‏ ‏(‏إن أول ما يسأل عنه الرجل جلساؤه‏:‏‏)‏ ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ ‏{‏ما لكم لا تناصرون‏؟‏‏}‏ أي كما زعمتم أنكم جميع منتصر‏؟‏ ‏{‏بل هم اليوم مستسلمون‏}‏ أي منقادون لأمر اللّه لا يخالفونه ولا يحيدون عنه، واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏27 ‏:‏ 37‏)

‏{‏ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ‏.‏ قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ‏.‏ قالوا بل لم تكونوا مؤمنين ‏.‏ وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين ‏.‏ فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ‏.‏ فأغويناكم إنا كنا غاوين ‏.‏ فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون ‏.‏ إنا كذلك نفعل بالمجرمين ‏.‏ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ‏.‏ ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ‏.‏ بل جاء بالحق وصدق المرسلين ‏}‏

يذكر تعالى‏:‏ أن الكفار يتلامون في عرصات القيامة، كما يتخاصمون في دركات النار، ‏{‏فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار‏}‏‏؟‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين‏}‏ وهكذا قالوا لهم ههنا‏:‏ ‏{‏إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين‏}‏، قال ابن عباس، يقولون‏:‏ كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا، لأنا كنا أذلاء وكنتم أعزاء، وقال مجاهد‏:‏ يعني عن الحق، تقوله الكفار للشياطين، وقال قتادة‏:‏ قالت الإنس للجن‏:‏ ‏{‏إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين‏}‏، قال‏:‏ من قبل الخير فتنهونا عنه وتبطئونا عنه، وقال السدي‏:‏ تأنوننا من قبل الحق وتزينوا لنا الباطل، وتصدونا عن الحق، قال الحسن‏:‏ أي واللّه يأيته عند كل خير يريده فيصده عنه، وقال ابن زيد‏:‏ معناه تحولون بيننا وبين الخير، ورددتمونا عن الإسلام والإيمان والعمل بالخير الذي أمرنا به‏.‏وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا بل لم تكونوا مؤمنين‏}‏ تقول القادة من الجن والإنس للأتباع‏:‏ ما الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان، قابلة للكفر والعصيان، ‏{‏وما كان لنا عليكم من سلطان‏}‏ أي من حجة على صحة ما دعوناكم إليه، ‏{‏بل كنتم قوماً طاغين‏}‏ أي بل كان فيكم طغيان ومجاوزة للحق، فلهذا استجبتم لنا وتركتم الحق الذي جاءتكم به الأنبياء، ‏{‏فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون * فأغويناكم إنا كنا غاوين‏}‏، يقول الكبراء للمستضعفين‏:‏ حقت علينا كلمة اللّه إنا من الأشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة، ‏{‏فأغويناكم‏}‏ أي دعوناكم إلى الضلالة ‏{‏إنا كنا غاوين‏}‏، أي فدعوناكم إلى ما نحن فيه فاستجبتم لنا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون‏}‏ أي الجميع في النار كل بحسبه، ‏{‏إنا كذلك نفعل بالمجرمين * إنهم كانوا‏}‏ أي في الدار الدنيا ‏{‏إذا قيل لهم لا إله إلا اللّه يستكبرون‏}‏ أي يستكبرون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فمن قال لا إله إلا اللّه فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على اللّه عزَّ وجلَّ‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً‏"‏‏.‏ وروى ابن أبي حاتم عن أبي العلاء قال‏:‏ يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم‏:‏ ما كنتم تعبدون‏؟‏ فيقولون نعبد اللّه وعزيراً، فيقال لهم‏:‏ خذوا ذات الشمال؛ ثم يؤتى بالنصارى فيقال لهم‏:‏ ما كنتم تعبدون‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعبد اللّه والمسيح، فيقال لهم‏:‏ خذوا ذات الشمال؛ ثم يؤتى بالمشركين فيقال لهم‏:‏ لا إله إلا اللّه، فيستكبرون، ثم يقال لهم لا إله إلا اللّه، فيستكبرون، ثم يقال لهم‏:‏ لا إله إلا اللّه، فيستكبرون، فيقال لهم‏:‏ خذوا ذات الشمال، قال أبو نضرة‏:‏ فينطلقون أسرع من الطير، قال أبو العلاء‏:‏ ثم يؤتى بالمسلمين فيقال لهم‏:‏ ما كنتم تعبدون‏؟‏ فيقولون‏:‏ كنا نعبد اللّه تعالى، فيقال لهم‏:‏ هل تعرفونه إذا رأيتموه‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فيقال لهم‏:‏ فكيف تعرفونه ولم تروه‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعلم أنه لا عدل له، قال‏:‏ فيتعرف لهم تبارك وتعالى وتقدس وينجي اللّه المؤمنين ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي العلاء موقوفاً‏"‏‏.‏ ‏{‏ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون‏}‏ أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول هذا الشاعر المجنون‏؟‏ يعنون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال اللّه تعالى تكذيباً لهم ورداً عليهم‏:‏ ‏{‏بل جاء بالحق‏}‏ يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاء بالحق، ‏{‏وصدّق المرسلين‏}‏ أي صدّقهم فيما أخبروه عنه من الصفات الحميدة، والمناهج السديدة، وأخبر عن اللّه تعالى في شرعه وأمره، كما أخبروا ‏{‏ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك‏}‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏38 ‏:‏ 49‏)‏

‏{‏ إنكم لذائقوا العذاب الأليم ‏.‏ وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ‏.‏ إلا عباد الله المخلصين ‏.‏ أولئك لهم رزق معلوم ‏.‏ فواكه وهم مكرمون ‏.‏ في جنات النعيم ‏.‏ على سرر متقابلين ‏.‏ يطاف عليهم بكأس من معين ‏.‏ بيضاء لذة للشاربين ‏.‏ لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ‏.‏ وعندهم قاصرات الطرف عين ‏.‏كأنهن بيض مكنون ‏}‏

يقول تعالى مخاطباً للناس‏:‏ ‏{‏إنكم لذائقوا العذاب الأليم * وما تجزون إلا ما كنتم تعملون‏}‏، ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين‏}‏، ولهذا قال جلَّ وعلا ههنا ‏{‏إلا عباد اللّه المخلصين‏}‏ أي ليسوا يذوقون العذاب الأليم، ولا يناقشون في الحساب، بل يتجاوز عن سيئاتهم إن كان لهم سيئات، ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وقوله جلَّ وعلا ‏{‏أولئك لهم رزق معلوم‏}‏ قال السدي‏:‏ يعني الجنة، ثم فسره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فواكه‏}‏ أي متنوعة ‏{‏وهم مكرمون‏}‏ أي يخدمون ويرفهون وينّعمون ‏{‏في جنات النعيم * على سرر متقابلين‏}‏، قال مجاهد‏:‏ لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يصدّعون عنها ولا ينزفون‏}‏ نزّه اللّه سبحانه وتعالى خمر الجنة عن الآفات التي في خمر الدنيا، من صداع الرأس، ووجع البطن، وهو الغول وذهابها بالعقل جملة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يطاف عليهم بكأس من معين‏}‏ أي بخمر من أنهار جارية، لا يخافون انقطاعها ولا فراغها، قال زيد بن أسلم‏:‏ خمر جارية بيضاء، أي لونها مشرق حسن بهي، لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء، من حمرة أو سواد أو اصفرار أو كدورة، إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏لذة للشاربين‏}‏ أي طعمها طيب كلونها، وطيب الطعم دليل على طيب الريح، بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا فيها غول‏}‏ يعني وجع البطن قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد ، كما تفعله خمر الدنيا، وقيل‏:‏ المراد بالغول ههنا صداع الرأس، وروي عن ابن عباس، وقال قتادة‏:‏ هو صداع الرأس ووجع البطن؛ وقال السدي‏:‏ لا تغتال عقولهم، كما قال الشاعر‏:‏

فما زالت الكأس تغتالنا * وتذهب بالأول الأول‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ لا مكروه فيها ولا أذى، والصحيح قول مجاهد‏:‏ أنه وجع البطن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا هم عنها ينزفون‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا تذهب عقولهم وكذا قال ابن عباس والحسن وعطاء والسدي ، وقال ابن عباس‏:‏ في الخمر أربع خصال‏:‏ السكر، والصداع، والقيء، والبول ، فذكر اللّه تعالى خمر الجنة، فنّزهها عن هذه الخصال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعندهم قاصرات الطرف‏}‏ أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن، كذا قال ابن عباس ومجاهد، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏عين‏}‏ أي حسان الأعين، وقيل ضخام الأعين، وهي النجلاء العيناء، فوصف عيونهن بالحسن والعفة، كقول زليخا في يوسف عليه السلام ‏{‏ولقد روادته عن نفسه فاستعصم‏}‏ أي هو مع هذا الجمال عفيف تقي نقي، وهكذا الحور العين ‏{‏خيرات حسان‏}‏، ولهذا قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وعندهم قاصرات الطرف عين‏}‏‏.‏ وقوله جلَّ جلاله‏:‏ ‏{‏كأنهن بيض مكنون‏}‏ وصفهن بترافة الأبدان بأحسن الألوان، قال ابن عباس ‏{‏كأنهن بيض مكنون‏}‏ يقول‏:‏ اللؤلؤ المكنون، وأنشد قول الشاعر‏:‏

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا * ص ميزت من جوهر مكنون‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ‏{‏كأنهن بيض مكنون‏}‏ يعين مصون لم تمسه الأيدي، وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏كأنهن بيض مكنون‏}‏ يعني بطن البيض، وقال السدي ‏{‏كأنهن بيض مكنون‏}‏ يقول بياض البيض حين ينزع قشره، واختاره ابن جرير لقوله ‏{‏مكنون‏}‏ قال‏:‏ والقشرة العليا يمسها جناح الطير والعش، وتنالها الأيدي بخلاف داخلها، وفي الحديث عن أنَس رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا حزنوا، وأنا شفيعهم إذا حبسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على اللّه عزَّ وجلَّ ولا فخر، يطوف علي ألف خادم كأنهن البيض المكنون - أو اللؤلؤ المكنون - ‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم وروى بعضه الترمذي‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏50 ‏:‏ 61‏)‏

‏{‏ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ‏.‏ قال قائل منهم إني كان لي قرين ‏.‏ يقول أئنك لمن المصدقين ‏.‏ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ‏.‏ قال هل أنتم مطلعون ‏.‏ فاطلع فرآه في سواء الجحيم ‏.‏قال تالله إن كدت لتردين ‏.‏ ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ‏.‏ أفما نحن بميتين ‏.‏ إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين ‏.‏ إن هذا لهو الفوز العظيم ‏.‏ لمثل هذا فليعمل العاملون ‏}‏

يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه ‏{‏أقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}‏ أي عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا، وماذا كانوا يعانون فيها، وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم، ومعاشرتهم في مجالسهم، وهم جلوس على السرر، والخدم بين أيديهم، يسعون ويجيئون بكل خير عظيم، مما لا رأت عين، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ‏{‏قال قائل منهم إني كان لي قرين‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني شيطاناً، وقال ابن عباس‏:‏ هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا القائل هو أحد الرجلين اللذين قال اللّه فيهما‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثلاً رجلين‏}‏ والقرين‏:‏ الرجل الذي دخل جنته وهو ظالم لنفسه، وقد وردت قصتهما في سورة الكهف ، ولا تنافي بين كلام مجاهد وابن عباس رضي اللّه عنهما، فإن الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس، ويكون من الإنس فيقول كلاماً تسمعه الأذنان، وكلاهما يتعاونان، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً‏}‏ وكل منهما يوسوس، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس‏}‏، ولهذا‏:‏ ‏{‏قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدّقين‏}‏ أي أأنت تصدّق بالبعث والنشور، والحساب والجزاء‏؟‏ يعني يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد، والكفر والعناد ‏{‏أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون‏}‏‏؟‏ قال مجاهد والسدي‏:‏ لمحاسبون، وقال ابن عباس‏:‏ لمجزيون بأعمالنا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال هل أنتم مطلعون‏}‏ أي مشرفون، يقول المؤمن لأصحابه وجلسائه من أهل الجنة ‏{‏فاطلع فرآه في سواء الجحيم‏}‏ قال ابن عباس والسدي‏:‏ يعني في وسط الجحيم، وقال الحسن البصري‏:‏ في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقدم، وقال قتادة‏:‏ ذكر أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي، وقال كعب الأحبار‏:‏ في الجنة كوى، إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار، اطلّع فيها فازداد شكراً للّه، ‏{‏قال تاللّه إن كدت لتردين‏}‏ يقول المؤمن مخاطباً للكافر‏:‏ واللّه إن كدت لتهلكني لو أطعتك، ‏{‏ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين‏}‏ أي ولولا فضل اللّه عليك لكنت مثلك في سواء الجحيم، محضر معك في العذاب، ولكنه رحمني فهداني للإيمان، وأرشدني إلى توحيده ‏{‏وما كما لنهتدي لولا أن هدانا اللّه‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين‏}‏‏؟‏ هذا من كلام المؤمن، مغطبتاً نفسه بما أعطاه اللّه تعالى، من الخلد في الجنة والإقامة في دار الكرامة، بلا موت فيها ولا عذاب، ولهذا قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏إن هذا لهو الفوز العظيم‏}‏‏.‏ قال الحسن البصري‏:‏ علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه، فقالوا‏:‏ ‏{‏أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين‏}‏‏؟‏ قيل‏:‏ لا، قالوا‏:‏ ‏{‏إن هذا لهو الفوز العظيم‏}‏‏.‏ وقوله جل جلاله‏:‏ ‏{‏لمثل هذا فليعمل العاملون‏}‏ قال قتادة هذا من كلام أهل الجنة، وقال ابن جرير‏:‏ هو من كلام اللّه تعالى، ومعناه‏:‏ لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة‏.‏

قال السدي‏:‏ كان شريكان في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، ثم افترقا فمكثا ما شاء اللّه أن يمكثا، ثم التقيا، فقال الكافر للمؤمن‏:‏ ما صنعت في مالك‏؟‏ أضربت به شيئاً، أتجرت به في شيء‏؟‏ قال له المؤمن‏:‏ لا، فما صنعت أنت‏؟‏ فقال اشتريت به أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بألف دينار - قال - فقال له المؤمن‏:‏ أو فعلت‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء اللّه تعالى أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال‏:‏ اللهم إن فلاناً - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بألف دينار ثم يموت غداً ويتركها‏.‏ اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً في الجنة، قال‏:‏ ثم أصبح فقسمها في

المساكين، قال‏:‏ ثم مكثا ما شاء اللّه تعالى أن يمكثا، ثم التقيا، فقال الكافر للمؤمن‏:‏ ما صنعت في مالك أضربت به في شيء‏؟‏ أتجرت به في شيء‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فما صنعت أنت‏؟‏ قال‏:‏ كانت ضيعتي قد اشتد عليَّ مؤنتها، فاشتريت رقيقاً بألف دينار، يقومون لي فيها ويعملون لي فيها، فقال له المؤمن‏:‏ أوفعلت‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء اللّه تعالى أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال‏:‏ اللهم إن فلاناً - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقاً من رقيق الدنيا بألف دينار يموت غداً فيتركهم أو يموتون فيتركونه، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار رقيقاً في الجنة، قال‏:‏ ثم أصبح، فقسمها في المساكين قال‏:‏ ثم مكثا ما شاء اللّه تعالى أن يمكثا، ثم التقيا، فقال الكافر للمؤمن‏:‏ ما صنعت في مالك أضربت به في شيء، أتجرت به في شيء‏؟‏ قال‏:‏ لا، فما صنعت أنت‏؟‏ قال‏:‏ كان أمري كله قد تم إلا شيئاً واحداً، فلانة قد مات عنها زوجها فأصدقتها ألف دينار، فجاءتني بها ومثلها معها، فقال له المؤمن‏:‏ أوفعلت‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال، فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء اللّه تعالى أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف دينار الباقية فوضعها بين يدي، وقال اللهم إن فلاناً - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا بألف دينار، فيموت غداً فيتركها أو تموت غداً فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف دينار حوراء عيناء في الجنة - قال - ثم أصبح فقسمها بين المساكين - قال - فبقي المؤمن ليس عنده شيء، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه، فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له‏:‏ ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ وهذه حالي وهذه حالك‏؟‏ قال‏:‏ أخبرني ما صنعت في مالك‏؟‏ قال‏:‏ أقرضته، قال‏:‏ من‏؟‏ قال‏:‏ المليء الوفي، قال‏:‏ من‏؟‏ قال‏:‏ اللّه ربي، قال، فانتزع يده من يده، ثم قال‏:‏ ‏{‏أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون‏}‏‏؟‏ قال السدي‏:‏ محاسبون، قال‏:‏ فانطلق الكافر وتركه، فلما رآه المؤمن وليس يلوي عليه رجع وتركه وجعل يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان، قال‏:‏ فإذا كان يوم القيامة وأدخل اللّه تعالى المؤمن الجنة، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار فيقول‏:‏ لمن هذا‏؟‏ فيقال‏:‏ هذا لك، فيقول‏:‏ يا سبحان اللّه، أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا‏؟‏ قال، ثم يمر، فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول‏:‏ لمن هذا فيقال‏:‏ هؤلاء لك، فيقول‏:‏ يا سبحان اللّه، أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا‏؟‏ قال‏:‏ ثم يمر، فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء، فيقول‏:‏ لمن هذه‏؟‏ فيقال‏:‏ هذه لك، فيقول‏:‏ يا سبحان اللّه، أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا‏؟‏ قال‏:‏ ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر، فيقول‏:‏ ‏{‏إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون‏}‏، قال، فالجنة عالية، والنار هاوية، قال‏:‏ فيريه اللّه تعالى شريكه في وسط الجحيم من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه، فيقول‏:‏ ‏{‏تاللّه إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين * إن هذا لهو الفوز العظيم * لمثل هذا فليعمل العاملون‏}‏ بمثل ما قد مُنَّ عليه، قال‏:‏ فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من شدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة أشد عليه من الموت ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏62 ‏:‏ 70‏)‏

‏{‏ أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم ‏.‏ إنا جعلناها فتنة للظالمين ‏.‏ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ‏.‏ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ‏.‏ فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون‏.‏ ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ‏.‏ ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ‏.‏ إنهم ألفوا آباءهم ضالين ‏.‏ فهم على آثارهم يهرعون ‏}‏

يقول اللّه تعالى‏:‏ أهذا الذي ذكر من نعيم الجنة، وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح، وغير ذلك من الملاذ خير ضيافةً وعطاءً ‏{‏أم شجرة الزقوم‏}‏ أي التي في جهنم‏؟‏ وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏إنا جعلناها فتنة للظالمين‏}‏، قال قتادة‏:‏ ذكرت شجرة الزقوم، فافتتن بها أهل الضلالة، وقالوا صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة والنار تأكل الشجر، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم‏}‏ غذيت من النار ومنها خلقت، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏إنا جعلناها فتنة للظالمين‏}‏‏.‏ قال أبو جهل لعنه اللّه‏:‏ إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه‏؟‏ قلت‏:‏ ومعنى الآية إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم، اختباراً تختبر به الناس، من يصدق منهم ممن يكذب، كقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طيغاناً كبيراً‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم‏}‏ أي أصل منبتها في قرار النار‏:‏ ‏{‏طلعها كأنه رؤوس الشياطين‏}‏ تبشيع لها وتكريه لذكرها، وإنما شبّهها برؤوس الشياطين، وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين، لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون‏}‏، ذكر تعالى أنهم يأكلون من هذه الشجرة، التي لا أبشع منها ولا أقبح من منظرها، مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع، فإنهم ليضطرون إلى الأكل منها، لأنهم لا يجدون إلا إياها وما هو في معناها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لهم طعام إلا من ضريع * لا يسمن ولا يغني من جوع‏}‏، روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلا هذه الآية وقال‏:‏ ‏(‏اتقوا اللّه حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه‏؟‏‏)‏ ‏"‏أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ يعني شرب الحميم على الزقوم، وعنه ‏{‏شوباً من حميم‏}‏ مزجاً من حميم، وقال غيره‏:‏ يعني يمزج لهم الحميم بصديد وغساق، مما يسيل من فروجهم وعيونهم، عن أبي أمامة الباهلي رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلى اللّه

عليه وسلم أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏يقرب - يعني إلى أهل النار - ماء فيتكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه فيه، فإذا شربه قطّع أمعاءه، حتى تخرج من دبره‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏، وروى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ ‏)‏إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم، فلو أن ماراً قد مر بهم يعرفهم لعرفهم بوجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش، فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم ووجوههم، التي سقطت عنها الجلود ويصهر ما في بطونهم، فيمشون تسيل أمعاؤهم، وتتساقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور‏)‏ ‏"‏هذا حديث موقوف أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم‏}‏ أي ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج، وجحيم تتوقد، وسعير تتوهج، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يطوفون بينها وبين حميم آن‏}‏ هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية، وهو تفسير حسن قوي، وكان عبد اللّه المراد به ابن مسعود رضي اللّه عنه وهي رواية السدي عنه رضي اللّه عنه يقول‏:‏ والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم ألفوا آباءهم ضالين‏}‏ أي إنما جازيناه بذلك لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة، فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك من غير دليل ولا برهان؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فهم على آثارهم يهرعون‏}‏ قال مجاهد‏:‏ شبَّهة بالهرولة، وقال سعيد بن جبير‏:‏ يسفهون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏71 ‏:‏ 74‏)‏

‏{‏ ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ‏.‏ ولقد أرسلنا فيهم منذرين ‏.‏ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ‏.‏ إلا عباد الله المخلصين ‏}‏

يخبر تعالى عن الأمم الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع اللّه آلهة أُخرى‏.‏ وذكر تعالى أنه أرسل فيهم منذرين ينذرونهم بأس اللّه، ويحذرونهم سطوته ونقمته، وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم، فأهلك اللّه المكذبين ودمرهم، ونجى المؤمنين ونصرهم وظفرهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إلا عباد اللّه المخلصين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏75 ‏:‏ 82‏)‏

‏{‏ ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ‏.‏ ونجيناه وأهله من الكرب العظيم ‏.‏ وجعلنا ذريته هم الباقين ‏.‏ وتركنا عليه في الآخرين ‏.‏ سلام على نوح في العالمين ‏.‏ إنا كذلك نجزي المحسنين ‏.‏ إنه من عبادنا المؤمنين ‏.‏ ثم أغرقنا الآخرين ‏}‏

لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة شرع يبين ذلك مفصلاً، فذكر نوحاً عليه الصلاة والسلام وما لقي من قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة، لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم، وكلما دعاهم ازدادوا نُفْرة ‏{‏فدعا ربه أني مغلوب فانتصر‏}‏، فغضب اللّه تعالى لغضبه عليهم، ولهذا قال عز وجلّ‏:‏ ‏{‏ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون‏}‏ له، ‏{‏ونجيناه وأهله من الكرب العظيم‏}‏ وهو التكذيب والأذى، ‏{‏وجعلنا ذريته هم الباقين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لم تبق إلا ذرية نوح عليه السلام، وقال قتادة‏:‏ الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام، وقد روى الترمذي عن سمرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا ذريته هم الباقين‏}‏ قال‏:‏ سام وحام ويافث، وروى الإمام أحمد، عن سمرة رضي اللّه عنه أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد ورواه الترمذي في السنن‏"‏، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وتركنا عليه في الآخرين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يذكر بخير، وقال مجاهد‏:‏ يعني لسان صدق للأنبياء كلهم، وقال قتادة والسدي‏:‏ أبقى اللّه عليه الثناء الحسن في الآخرين، قال الضحّاك‏:‏ السلام والثناء الحسن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سلام على نوح في العالمين‏}‏ مفسر لما أبقى عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن، أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم، ‏{‏إنا كذلك نجزي المحسنين‏}‏ أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة اللّه تعالى، نجعل له لسان صدق يذكر به بعده، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنه من عبادنا المؤمنين‏}‏ أي المصدقين الموحدين الموقنين، ‏{‏ثم أغرقنا الآخرين‏}‏ أي أهلكناهم فلم تبق منهم عين تطرف، ولا ذكر ولا عين ولا أثر، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏83 ‏:‏ 87‏)‏

‏{‏ وإن من شيعته لإبراهيم ‏.‏ إذ جاء ربه بقلب سليم ‏.‏ إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ‏.‏ أإفكا آلهة دون الله تريدون ‏.‏ فما ظنكم برب العالمين ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وإن من شيعته لإبراهيم‏}‏ يقول‏:‏ من أهل دينه، وقال مجاهد‏:‏ على منهاجه وسنته ‏{‏إذ جاء ربه بقلب سليم‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ يعني شهادة أن لا إله إلا اللّه، روى ابن أبي حاتم، عن عوف قال‏:‏ قلت لمحمد بن سيرين ‏(‏ما القلب السليم‏؟‏ قال‏:‏ يعلم أن اللّه حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث من في القبور‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم من كلام ابن سيرين‏"‏، وقال الحسن‏:‏ سليم من الشرك، ثمَّ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون‏}‏‏؟‏ أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد، ولهذا قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏أإفكاً آلهة دون اللّه تريدون * فما ظنكم برب العالمين‏}‏‏؟‏ قال قتادة‏:‏ يعني ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لا قيتموه وقد عبدتم معه غيره‏؟‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏88 ‏:‏ 98‏)‏

‏{‏ فنظر نظرة في النجوم ‏.‏ فقال إني سقيم ‏.‏فتولوا عنه مدبرين ‏.‏ فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ‏.‏ ما لكم لا تنطقون ‏.‏ فراغ عليهم ضربا باليمين ‏.‏ فأقبلوا إليه يزفون ‏.‏ قال أتعبدون ما تنحتون ‏.‏ والله خلقكم وما تعملون ‏.‏ قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ‏.‏ فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ‏}‏

إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك، ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم، فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيدهم، فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها، فقال لهم كلاماً هو حق في نفس الأمر، فهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه، ‏{‏فتولوا عنه مدبرين‏}‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ والعرب تقول لمن تفكر‏:‏ نظر في النجوم، يعني قتادة أنه نظر إلى السماء متفكراً فيما يلهيهم به، فقال‏:‏ ‏{‏إني سقيم‏}‏ أي ضعيف، فأما قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لم يكذب إبراهيم عليه السلام غير ثلاث كذبات‏:‏ ثنتين في ذات اللّه تعالى، قوله‏:‏ ‏{‏إني سقيم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏بل فعله كبيرهم هذا‏}‏، وقوله في سارة‏:‏ هي أختي فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن، ولكن ليس من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله حاشا وكلا؛ وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب‏)‏‏.‏ قال ابن المسيب‏:‏ رأى نجماً طلع فقال‏:‏ ‏{‏إني سقيم‏}‏ كابد نبي اللّه عن دينه ‏{‏فقال إني سقيم‏}‏، وقيل‏:‏ أراد ‏{‏إني سقيم‏}‏ أي مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون اللّه تعالى، وقال الحسن البصري‏:‏ خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم فأرادوه على الخروج، فاضطجع على ظهره، وقال‏:‏ ‏{‏إني سقيم‏}‏ وجعل ينظر في السماء، فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري‏"‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فتولوا عنه مدبرين‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فراغ إلى آلهتهم‏}‏ أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعة واختفاء، ‏{‏فقال ألا تأكلون‏}‏‏؟‏ وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاماً قرباناً لتبرّك لهم فيه، قال السدي‏:‏ دخل إبراهيم عليه السلام إلى بيت الآلهة، فإذا هم في بهو عظيم، وإذا مسقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه أصغر منه، بعضها إلى جنب بعضن كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاماً ووضعوه بين أيدي الآلهة، وقالوا‏:‏ إذا كان حين نرجع وقد برّكت الآلهة

في طعامنا أكلناه، فلما نظر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى ما بين أيديهم من الطعام قال‏:‏ ‏{‏ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فراغ عليهم ضرباً باليمين‏}‏ قال الفراء‏:‏ معناه مال عليهم ضرباً باليمين، وقال قتادة والجوهري‏:‏ فأقبل عليهم ضرباً باليمين؛ وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى، ولهذا تركهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون، كما تقدم في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تفسير ذلك‏.‏ وقوله تعالى ههنا‏:‏ ‏{‏فأقبلوا إليه يزفّون‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي يسرعون، فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم فقال‏:‏ ‏{‏أتعبدون ما تنحتون‏}‏‏؟‏ أي أتعبدون من دون اللّه من الأصنام ما أنتم تنحونها وتجعلونها بأيديكم‏؟‏ ‏{‏واللّه خلقكم وما تعملون‏}‏ يحتمل أن تكون ما مصدرية، فيكون الكلام‏:‏ خلقكم وعملكم، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي تقديره واللّه خلقكم والذي تعملونه، وكلا القولين متلازم، والأول أظهر، لما رواه البخاري عن حذيفة رضي

اللّه عنه مرفوعاً قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه تعالى يصنع كل صانع وصنعته‏)‏ فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر فقالوا‏:‏ ‏{‏ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم‏}‏، وكان من أمرهم ما تقدم بيانه في سورة الأنبياء، ونجاه اللّه من النار، وأظهره عليهم، وأعلى حجته ونصرها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏99 ‏:‏ 113‏)‏

‏{‏ وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين ‏.‏ رب هب لي من الصالحين ‏.‏ فبشرناه بغلام حليم ‏.‏ فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ‏.‏ فلما أسلما وتله للجبين ‏.‏ وناديناه أن يا إبراهيم ‏.‏ قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ‏.‏ إن هذا لهو البلاء المبين ‏.‏ وفديناه بذبح عظيم ‏.‏ وتركنا عليه في الآخرين ‏.‏ سلام على إبراهيم ‏.‏ كذلك نجزي المحسنين ‏.‏ إنه من عبادنا المؤمنين ‏.‏ وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ‏.‏ وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أنه بعدما نصره اللّه تعالى على قومه، وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة، هاجر من بين أظهرهم وقال‏:‏ ‏{‏إني ذاهب إلى ربي سيهدين * رب هب لي من الصالحين‏}‏ يعني أولاداً مطيعين يكونون عوضاً من قومه وعشيرته الذين فارقهم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرناه بغلام حليم‏}‏ هذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشر به إبراهيم عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل في نص كتابهم أن إسماعيل ولد ولإبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة، وولد إسحاق وفي عمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسع وتسعون سنة، وعندهم أن اللّه تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة أخرى‏:‏ بكره، فأقحموا ههنا كذباً وبهتاناً إسحاق ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق وحكي ذلك عن طائفة من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة رضي اللّه عنهم أيضاً، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب وأخذ ذلك مُسَلَّماً من غير حجة، وهذا كتاب اللّه شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين‏}‏، ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا ‏{‏إنا نبشرك بغلام عليم‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب‏}‏ أي يولد في حياتهما ولد يسمى يعقوب فيكون من ذريته عقب ونسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيراً‏؟‏ وإسماعيل وصف ههنا بالحليم لأنه مناسب لهذا المقام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما بلغ معه السعي‏}‏ أي كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه، قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏{‏فلما بلغ معه السعي‏}‏ بمعنى شب وارتحل، وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل ‏{‏قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى‏}‏ قال عبيد بن عمير‏:‏ رؤيا الأنبياء وحي، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى‏}‏‏؟‏، وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة اللّه تعالى وطاعة أبيه ‏{‏قال يا أبت افعل ما تؤمر‏}‏ أي امض لما أمرك اللّه من ذبحي، ‏{‏ستجدني إن شاء اللّه من الصابرين‏}‏ أي سأصبر وأحتسب ذلك عند اللّه عزَّ وجلَّ، وصدق صلوات اللّه وسلامه عليه فيما وعد، ولهذا قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً‏}‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أسلما وتله للجبين‏}‏ أي فلما تشهدا وذكرا اللّه تعالى إبراهيم على الذبح و الولد شهادة الموت، وقيل‏:‏ ‏{‏أسلما‏}‏ يعني استسلما وانقادا، إبراهيم امتثل أمر اللّه تعالى وإسماعيل طاعة للّه ولأبيه قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وهو الأظهر ، ومعنى ‏{‏تلّه للجبين‏}‏‏:‏ أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وتله للجبين‏}‏ أكبه على وجهه وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير والضحّاك وقتادة ‏.‏

عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال‏:‏ لما أمر إبراهيم عليه السلام بالمناسك عرض له

الشيطان عند السعي فسابقه، فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم ذهب به جبريل عليه السلام إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات، حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات، وثم تلَّه للجبين، وعلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام قميص أبيض‏:‏ فقال له يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفني فيه، فعالجه ليخلعه، فنودي من خلفه‏:‏ ‏{‏أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا‏}‏ فالتفت إبراهيم، فإذا بكبش أبيض أقرن أعين ‏"‏هذا جزء من حديث رواه الإمام أحمد عن ابن عباس موقوفاً‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا‏}‏ أي قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، وذكر السدي وغيره أنه أمرَّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئاً، بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس، ونودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك ‏{‏قد صدقت الرؤيا‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كذلك نجزي المحسنين‏}‏ أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب‏}‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا لهو البلاء المبين‏}‏ أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى ذلك، مستسلماً لأمر اللّه تعالى منقاداً لطاعته ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإبراهيم الذي وفى‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفديناه بذبح عظيم‏}‏ عن علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ بكبش أبيض أقرن قد ربط بسمرة، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما‏:‏ كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ كان الكبش يرتع في الجنة، حتى شقق عنه ثبير، وكان عليه عهن أحمر ذكر أن الكبش هو الذي قر به ابن آدم وكان في الجنة حتى فدي به إسماعيل وهو منقول عن بعض السلف ، قال مجاهد‏:‏ ذبحه بمنى عند النحر، وقال الثوري، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفديناه بذبح عظيم‏}‏ قال‏:‏ وعل، وقال الحسن‏:‏ ما فدي إسماعيل عليه السلام إلا بتيس من الأروى، أهبط عليه من ثبير‏.‏

ذكر  الآثار الواردة بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح المقطوع به ‏.‏

تقدمت الرواية عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه إسحاق عليه الصلاة والسلام، وروى مجاهد وعطاء وغير واحد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وروى ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ المفدى إسماعيل عليه السلام، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود، وروى مجاهد، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال‏:‏ الذبيح إسماعيل، وقال مجاهد‏:‏ هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة، وقال محمد بن إسحاق، عن الحسن البصري‏:‏ أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل عليه السلام، قال ابن إسحاق‏:‏ وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول‏:‏ إن الذي أمر اللّه تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل وإنا لنجد ذلك في كتاب

اللّه تعالى، وذلك أن اللّه تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابنَيْ إبراهيم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين‏}‏، ويقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب‏}‏ يقول‏:‏ بابن، وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد بما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل، قال ابن إسحاق‏:‏ سمعته يقول ذلك كثيراً‏.‏ وقال ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي‏:‏ أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام، فقال له عمر‏:‏ إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهودياً، فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، فسأله عمر ابن عبد العزيز رضي اللّه عنه عن ذلك، قال محمد بن كعب‏:‏ وأنا عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر‏:‏ أيُّ ابن إبراهيم أمر بذبحه‏؟‏ فقال‏:‏ إسماعيل واللّه يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر اللّه فيه، والفضل الذي ذكر اللّه تعالى منه لصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق، لأن إسحاق أبوهم، واللّه أعلم أيهما كان، وكل قد كان طاهراً طيباً مطيعاً للّه عزَّ وجلَّ ذهب ابن جرير الطبري إلى أن الذبيح هو إسحاق وهو قول لبعض علماء السلف وإحدى الروايات عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ورواية عن كعب الأحبار، والصحيح كما قال ابن كثير أن الذبيح هو إسماعيل للآثار الكثيرة الواردة وظاهر القرآن الكريم كما في رواية ابن إسحاق، واللّه أعلم‏.‏ ، وقال عبد اللّه بن الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللّه‏:‏ سألت أبي عن الذبيح، هل هو إسماعيل أو إسحاق‏؟‏ فقال‏:‏ إسماعيل ‏"‏ذكره ابن حنبل في كتاب الزهد‏.‏‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم، وسمعت أبي يقول‏:‏ الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام، قال‏:‏ وروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح رضي اللّه عنهم أنهم قالوا‏:‏ الذبيح إسماعيل، وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرناه بغلام حليم‏}‏ فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشروه بغلام عليم‏}‏، وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم، بل هو بعيد جداً، والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى، واللّه أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين‏}‏ لما تقدمت البشارة بالذبيح وهو إسماعيل عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق وقد ذكرت في سورتي هود والحجر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نبياً‏}‏ أي سيصير منه نبي صالح، قال ابن عباس‏:‏ بشر بنبوته، حين ولد، وحين نبئ، وقال قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين‏}‏ قال‏:‏ بعد ما كان من أمره لما جاد للّه تعالى بنفسه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏114 ‏:‏ 122‏)‏

‏{‏ ولقد مننا على موسى وهارون ‏.‏ ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ‏.‏ ونصرناهم فكانوا هم الغالبين ‏.‏ وآتيناهما الكتاب المستبين ‏.‏ وهديناهما الصراط المستقيم ‏.‏ وتركنا عليهما في الآخرين ‏.‏ سلام على موسى وهارون ‏.‏ إنا كذلك نجزي المحسنين ‏.‏ إنهما من عبادنا المؤمنين ‏}‏

يذكر تعالى ما أنعم به على موسى و هارون من النبوة، والنجاة بمن آمن معهما من قهر فرعون وقومه، وما كان يعتمد في حقهم من الإساءة العظيمة، من قتل الأنبياء واستحياء النساء، واستعمالهم في أخس الأشياء، ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم وأقر أعينهم منهم، فغلبوهم وأخذوا أرضهم وأموالهم، وما كانوا جمعوه طوال حياتهم، ثم أنزل اللّه عزَّ وجلَّ على موسى الكتاب العظيم، الواضح الجلي المستبين وهو التوراة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء‏}‏‏.‏ وقال عزَّ وجلَّ ههنا‏:‏ ‏{‏وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم‏}‏ أي في الأقوال والأفعال، ‏{‏وتركنا عليهما في الآخرين‏}‏ أي أبقينا لهما من بعدهما ذكراً جميلاً، وثناء حسناً، ثم فسره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سلام على موسى وهارون * إنا كذلك نجزي المحسنين * إنهما من عبادنا المؤمنين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏123 ‏:‏ 132‏)‏

‏{‏ وإن إلياس لمن المرسلين ‏.‏ إذ قال لقومه ألا تتقون ‏.‏ أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين ‏.‏ الله ربكم ورب آبائكم الأولين ‏.‏ فكذبوه فإنهم لمحضرون ‏.‏ إلا عباد الله المخلصين ‏.‏ وتركنا عليه في الآخرين ‏.‏ سلام على إل ياسين ‏.‏ إنا كذلك نجزي المحسنين ‏.‏ إنه من عبادنا المؤمنين ‏}‏

قال قتادة‏:‏ يقال إلياس هو إدريس، وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ إلياس هو إدريس، وكذا قال الضحّاك، وقال وهب بن منبه‏:‏ هو إلياس بن نسي بن فنحاص، بعثه اللّه تعالى في بني إسرائيل بعد حزقيل عليهما السلام، وكانوا قد عبدوا صنماً يقال له بعل، فدعاهم إلى اللّه تعالى، ونهاهم عن عبادة ما سواه، وكان قد آمن به ملكهم، ثم ارتد، واستمروا على ضلالتهم، ولم يؤمن به منهم أحد، فدعا اللّه عليهم فحبس عنهم القطر ثلاث سنين، ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم ووعده بالإيمان به إن هم أصابهم المطر، فدعا اللّه تعالى لهم، فجاءهم الغيث، فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر، فسأل اللّه أن يقبضه إليه، وكان قد نشأ على يديه اليسع بن أخطوب عليهما السلام‏.‏

‏{‏إذ قال لقومه ألا تتقون‏}‏ أي ألا تخافون اللّه عزَّ وجلَّ في عبادتكم غيره، ‏{‏أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين‏}‏‏؟‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏{‏بعلاً‏}‏ يعني رباً، قال عكرمة وقتادة‏:‏ وهي لغة أهل اليمن، وقال ابن إسحاق‏:‏ أخبرني بعض أهل العلم أنهم كانوا يعبدون امرأة اسمها بعل، وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها بعلبك غربي دمشق، وقال الضحّاك‏:‏ هو صنم كانوا يعبدونه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتدعون بعلاً‏}‏‏؟‏ أي أتعبدون صنماً، ‏{‏وتذرون أحسن الخالقين * اللّه ربكم ورب آبائكم الأولين‏}‏ أي هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فكذبوه فإنهم لمحضرون‏}‏ أي للعذاب يوم الحساب ‏{‏إلا عباد اللّه المخلصين‏}‏ أي الموحدين منهم، وهذا استثناء منقطع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتركنا عليه في الآخرين‏}‏ أي ثناء جميلاً ‏{‏سلام على إل ياسين‏}‏، كما يقال في إسماعيل إسماعين، وهي لغة بني أسد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين‏}‏ قد تقدم تفسيره واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏133 ‏:‏ 138‏)‏

‏{‏ وإن لوطا لمن المرسلين ‏.‏ إذ نجيناه وأهله أجمعين ‏.‏ إلا عجوزا في الغابرين ‏.‏ ثم دمرنا الآخرين ‏.‏ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ‏.‏ وبالليل أفلا تعقلون ‏}‏

يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه السلام أنه بعثه إلى قومه فكذبوه، فنجاه اللّه تعالى من بين أظهرهم هو وأهله إلا امرأته، فإنها هلكت مع من هلك من قومها، فإن اللّه تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح اشتهرت بتسميتها بحيرة لوط وهي قريبة من شرقِ الأردن ، وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلاً ونهاراً، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون‏}‏‏؟‏ أي أفلا تعتبرون بهم كيف دمر اللّه عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها‏.‏‏.‏‏؟‏

 الآية رقم ‏(‏139 ‏:‏ 148‏)‏

‏{‏ وإن يونس لمن المرسلين ‏.‏ إذ أبق إلى الفلك المشحون ‏.‏ فساهم فكان من المدحضين ‏.‏ فالتقمه الحوت وهو مليم ‏.‏ فلولا أنه كان من المسبحين ‏.‏ للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ‏.‏ فنبذناه بالعراء وهو سقيم ‏.‏ وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ‏.‏ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ‏.‏ فآمنوا فمتعناهم إلى حين ‏}‏ قد تقدمت قصة يونس عليه الصلاة والسلام في سورة الأنبياء، وفي الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى‏)‏ ونسبه إلى أمه، وفي رواية إلى أبيه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ أبق إلى الفلك المشحون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو الموقر أي المملوء بالأمتعة، ‏{‏فساهم‏}‏ أي قارع ‏{‏فكان من المدحضين‏}‏ أي المغلوبين، وذلك أن السفينة تلعبت بها الأمواج من كل جانب، وأشرفوا على الغرق، فساهموا على أنّ من تقع عليه القرعة يلقى في البحر، لتخف بهم السفينة، فوقعت القرعة على نبي اللّه يونس عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، وهم يضنّون به أن يلقى من بينهم، فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه، وهم يأبون عليه ذلك، وأمر اللّه تعالى حوتاً أن يلتقم يونس عليه السلام، فلا يهشم له لحماً، ولا يكسر له عظماً، فجاء ذلك الحوت وألقي يونس عليه السلام، فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلها، ولما استقر في بطن الحوت حسب أنه قد مات، ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه، فإذا هو حي، فقام فصلى في بطن الحوت، وكان من جملة دعائه‏:‏ ‏(‏يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس‏)‏، واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت، فقيل ثلاثة أيام، وقيل‏:‏ سبعة، وقيل‏:‏ أربعين يوماً، وقال مجاهد‏:‏ التقمه ضحى ولفظه عشية، واللّه تعالى أعلم بمقدار ذلك‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون‏}‏ قيل‏:‏ لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء، قاله الضحّاك واختاره ابن جرير‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏تعرّف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة‏)‏

أخرجه الترمذي في سننه‏.‏‏"‏‏.‏ وقال ابن عباس والحسن وقتادة‏:‏ ‏{‏فلولا أنه كان من المسبحين‏}‏ يعني المصلين، وقال بعضهم كان من المسبحين في جوف أبويه، وقيل‏:‏ المراد ‏{‏فلولا أنه كان من المسبحين‏}‏ هو قوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك

إني كنت من الظالمين‏}‏‏.‏ روى ابن أبي حاتم عن أنَس بن مالك رضي اللّه عنه - يرفعه - ‏:‏ ‏(‏إن يونس النبي عليه الصلاة والسلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت، فقال‏:‏ اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فأقبلت الدعوة تحن بالعرش، قالت الملائكة‏:‏ يا رب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيدة غريبة، فقال اللّه تعالى‏:‏ أما تعرفون ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رب ومن هو‏؟‏ قال عزَّ وجلِّ‏:‏ عبدي يونس، قالوا‏:‏ عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة، قالوا‏:‏ يا رب أو لا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه في البلاء‏؟‏ قال‏:‏ بلى، فأمر الحوت فطرحه بالعراء‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم ورواه ابن جرير عن ابن وهب‏.‏‏"‏‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فنبذناه‏}‏ أي ألقيناه ‏{‏بالعراء‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ وهي الأرض التي ليس بها نبت ولا بناء، قيل‏:‏ على جانب دجلة، وقيل‏:‏ بأرض اليمن، فاللّه أعلم، ‏{‏وهو سقيم‏}‏ أي ضعيف البدن، قال ابن مسعود رضي اللّه عنه‏:‏ كهيئة الفرخ ليس عليه ريش، وقال السدي‏:‏ كهيئة الصبي حين يولد، وهو المنفوس، ‏{‏وأنبتنا عليه شجرة من يقطين‏}‏ قال ابن مسعود وابن عباس‏:‏ اليقطين هو القرع وهو قول جمهور السلف‏.‏ ، وقال سعيد بن جبير‏:‏ كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين، وفي رواية عنه‏:‏ كل شجرة تهلك من عامها فهي من اليقطين، وذكر بعضهم في القرع فوائد‏:‏ منها سرعة نباته، وتظليل ورقه لكبره ونعومته، وأنه لا يقربها الذباب، وجودة تغذية ثمره، وأنه يؤكل نيئاً ومطبوخاً بلبه وقشره أيضاً، وقد ثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يحب الدباء، ويتبعه من حواشي الصحفة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏، روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إنما كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام بعد ما نبذه الحوت ‏"‏رواه ابن جرير عن ابن عباس‏.‏‏"‏، وقال مجاهد‏:‏ أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت‏.‏ قلت‏:‏ ولا مانع أن يكون الذين أرسل إليهم أولاً أمر بالعودة إليهم بعد خروجه من الحوت، فصدقوه كلهم وآمنوا به، وحكى البغوي‏:‏ أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت كانوا مائة ألف أو يزيدون، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يزيدون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بل يزيدون، وكانوا مائة وثلاثين ألفاً، وقال سعيد بن جبير‏:‏ يزيدون سبعين ألفاً؛ وقال مكحول‏:‏ كانوا مائة ألف وعشرة آلاف، وقال ابن جرير، عن أبي بن كعب رضي اللّه عنه أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏ قال‏:‏ يزيدون عشرين ألفاً ‏"‏الحديث رواه ابن جرير وأخرجه الترمذي وقال‏:‏ غريب‏.‏‏"‏‏.‏ وقد سلك ابن جرير ههنا ما سلكه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالجحارة أو أشد قسوة‏}‏، المراد ليس أنقص من ذلك بل أزيد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمنوا‏}‏ أي فآمن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم يونس عليه السلام جميعهم، ‏{‏فمتعناهم إلى حين‏}‏ أي إلى وقت آجالهم، كقوله جلت عظمته ‏{‏فلولا قرية كانت آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏149 ‏:‏ 160‏)

‏{‏ فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ‏.‏ أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ‏.‏ ألا إنهم من إفكهم ليقولون ‏.‏ ولد الله وإنهم لكاذبون ‏.‏ أصطفى البنات على البنين ‏.‏ ما لكم كيف تحكمون ‏.‏ أفلا تذكرون ‏.‏ أم لكم سلطان مبين ‏.‏ فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ‏.‏ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ‏.‏ سبحان الله عما يصفون ‏.‏ إلا عباد الله المخلصين ‏}‏

يقول تعالى منكراً على هؤلاء المشركين في جعلهم للّه تعالى البنات ‏{‏سبحانه ولهم ما يشتهون‏}‏ أي من الذكور، أي يودون لأنفسهم الجيد، ‏{‏وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم‏}‏ أي يسوؤه ذلك ولا يختار لنفسه إلا البنين‏.‏ يقول عزَّ وجلَّ فكيف إذا نسبوا إلى اللّه تعالى القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستفتهم‏}‏ أي سلهم على سبيل الإنكار عليهم ‏{‏ألربك البنات ولهم البنون‏}‏‏؟‏ كقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى‏}‏، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون‏}‏ أي كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم كقوله جلَّ وعلا ‏{‏وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون‏}‏ أي يسألون عن ذلك يوم القيامة، وقوله جلت عظمته ‏{‏ألا إنهم من إفكهم‏}‏ أي من كذبهم ‏{‏ليقولون ولد اللّه‏}‏ أي صدر منه الولد ‏{‏وإنهم لكاذبون‏}‏، فذكر اللّه تعالى عنهم في الملائكة ثلاثة أقوال في غاية الكفر والكذب‏:‏ فأولاً جعلوهم بنات اللّه فجعلوا للّه ولداً تعالى وتقدس، ثُمّ جعلوا ذلك الولد أنثى ثم عبدوهم من دون اللّه تعالى وتقدس وكل منها كاف في التخليد في نار جهنم، ثم قال تعالى منكراً عليهم‏:‏ ‏{‏أصطفى البنات على البنين‏}‏ أي‏:‏ أي شيء يحمله على أن يختار البنات دون البنين‏؟‏ كقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏أفاصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً‏؟‏ إنكم لقولون قولاً عظيماً‏}‏، ولهذا قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ما لكم كيف تحكمون‏}‏‏؟‏ أي ما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون ‏{‏أفلا تذكرون * أم لكم سلطان مبين‏}‏ أي حجة على ما تقولونه، ‏{‏فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين‏}‏ أي هاتوا برهاناً على ذلك يكون مستنداً إلى كتاب منزل من السماء، عن اللّه تعالى أنه اتخذ ما تقولونه، لا يمكن استناده إلى عقل، بل لا يجوزه العقل بالكلية‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ قال المشركون‏:‏ الملائكة بنات اللّه تعالى، فقال أبو بكر رضي اللّه عنه‏:‏ فمن أمهاتهن‏؟‏ قالوا‏:‏ بنات سروات الجن، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد علمت الجنة‏}‏ أي الذين نسبوا إليهم ذلك ‏{‏إنهم لمحضرون‏}‏ أي إن الذين قالوا ذلك ‏{‏لمحضرون‏}‏ في العذاب يوم الحساب، لكذبهم في ذلك وافترائهم وقولهم الباطل بلا علم، وقال ابن عباس‏:‏ زعم أعداء اللّه أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، وقوله جلت عظمته‏:‏ ‏{‏سبحان اللّه عما يصفون‏}‏ أي تعالى وتقدس وتنزه عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون الملحدون علواً كبيراً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا عباد اللّه المخلصين‏}‏ استثنى منهم المخلصين وهم المتبعون للحق المنزل على كل نبي مرسل، وجعل ابن جرير هذا الاستثناء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم لمحضرون إلا عباد اللّه المخلصين‏}‏ وفي هذا الذي قاله نظر، واللّه سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏161 ‏:‏ 170‏)‏

‏{‏ فإنكم وما تعبدون ‏.‏ ما أنتم عليه بفاتنين ‏.‏ إلا من هو صال الجحيم ‏.‏ وما منا إلا له مقام معلوم ‏.‏ وإنا لنحن الصافون ‏.‏ وإنا لنحن المسبحون ‏.‏ وإن كانوا ليقولون ‏.‏ لو أن عندنا ذكرا من الأولين ‏.‏ لكنا عباد الله المخلصين ‏.‏ فكفروا به فسوف يعلمون ‏}‏

يقول تعالى مخاطباً المشركين‏:‏ ‏{‏فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم‏}‏ أي إنما ينقاد لمقالتكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة، من هو أضل منكم ممن ذرئ للنار، ‏{‏لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون‏}‏ فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة، كما قال تبارك وتعالى ‏{‏إنكم لفي قول مختلف * يؤفك عنه من أفك‏}‏ أي إنما يضل به من هو مأفوك ومبطل، ثم قال تبارك وتعالى منزهاً للملائكة مما نسبوا إليهم من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات اللّه‏:‏ ‏{‏وما منا إلا له مقام معلوم‏}‏ أي له موضع مخصوص في السماوات ومقام العبادات لا يتجاوزه ولا يتعداه، قال الضحّاك‏:‏ كان مسروق يروي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم‏)‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما منا إلا له مقام معلوم‏}‏ ‏"‏أخرجه الضحّاك في تفسيره ورواه ابن عساكر بنحوه وأصله في الصحاح‏.‏‏"‏‏.‏ وقال الأعمش، عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال‏:‏ إن في السماوات لسماء ما فيها موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه، ثم قرأ عبد اللّه رضي اللّه عنه‏:‏ ‏{‏وما منا إلا له مقام معلوم‏}‏، قال ابن جريج‏:‏ كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن الصافون‏}‏ فصفوا، وقال أبو نضرة‏:‏ كان عمر رضي اللّه عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه، ثم قال‏:‏ أقيموا صفوفكم، استووا قياماً، يريد اللّه تعالى بكم هدي الملائكة، ثم يقول‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن الصافون‏}‏، تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر‏)‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم وابن جرير‏.‏‏"‏‏.‏

وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فضلنا على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجداً، وتربتها طهوراً‏)‏ الحديث، ‏{‏وإنا لنحن المسبحون‏}‏ أي نصطف فنسبح الرب ونمجده ونقدسه وننزهه عن النقائض، فنحن عبيد له فقراء إليه خاضعون لديه، وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏{‏وما منا إلا له مقام معلوم‏}‏ الملائكة، ‏{‏وإنا لنحن الصافون‏}‏ الملائكة، ‏{‏وإنا لنحن المسبحون‏}‏ الملائكة تسبح اللّه عزَّ وجلَّ، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن المسبحون‏}‏ يعني المصلون يثبتون بمكانهم من العبادة الصحيح أن المراد به الملائكة وهو قول ابن عباس ومجاهد‏.‏ ‏.‏ وقوله جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد اللّه المخلصين‏}‏، أي قد كانوا يتمنون قبل أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكرهم بأمر اللّه، وما كان من القرون الأولى ويأيتهم بكتاب اللّه كما قال جلَّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين‏}‏ ولهذا قال تعالى ههنا‏:‏ ‏{‏فكفروا به فسوف يعلمون‏}‏ وعيد أكيد وتهديد شديد، على كفرهم بربهم عزَّ وجلَّ وتكذبيهم لرسوله صلى اللّه عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏171 ‏:‏ 179‏)‏

‏{‏ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ‏.‏ إنهم لهم المنصورون ‏.‏ وإن جندنا لهم الغالبون ‏.‏ فتول عنهم حتى حين ‏.‏ وأبصرهم فسوف يبصرون ‏.‏ أفبعذابنا يستعجلون ‏.‏ فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ‏.‏ وتول عنهم حتى حين ‏.‏ وأبصر فسوف يبصرون ‏}‏

يقول تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين‏}‏ أي تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللّه قوي عزيز‏}‏، وقال عزَّ وجلَّ ‏{‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏}‏، ولهذا قال جلَّ جلاله‏:‏ ‏{‏إنهم لهم المنصورون‏}‏ أي في الدنيا والآخرة كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم، مممن كذبهم وخالفهم، كيف أهلك اللّه الكافرين ونجى عباده المؤمنين، ‏{‏وإن جندنا لهم الغالبون‏}‏ أي تكون لهم العاقبة، وقوله جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏فتول عنهم حتى حين‏}‏ أي اصبر على أذاهم لك وانتظر إلى وقت مؤجل، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر، وقوله جلت عظمته‏:‏ ‏{‏وأبصرهم فسوف يبصرون‏}‏ أي انظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك، ولهذا قال تعالى على وجه التهديد والوعيد‏:‏ ‏{‏فسوف يبصرون‏}‏، ثم قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏أفبعذابنا يستعجلون‏}‏ أي هم هم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك، ومع هذا يستعجلون العذاب والعقوبة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين‏}‏ أي فإذا نزل العذاب بمحلتهم فبئس ذلك اليوم يومهم، بإهلاكهم ودمارهم، وقال السدي‏:‏ ‏{‏فإذا نزل بساحتهم‏}‏ يعني بدارهم ‏{‏فساء صباح المنذرين‏}‏ أي فبئس ما يصبحون أي بئس الصباح صباحهم، ولهذا ثبت في الصحيحين عن أنَس رضي اللّه عنه قال‏:‏ صبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيبر، فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا، وهم يقولون‏:‏ محمد واللّه، محمد والخميس، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللّه أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم عن أنس، ومعنى قولهم محمد والخميس أي محمد والجيش‏.‏‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون‏}‏ تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك واللّه سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏180 ‏:‏ 182‏)‏

‏{‏ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ‏.‏ وسلام على المرسلين ‏.‏ والحمد لله رب العالمين ‏}‏

ينزه تبارك وتعالى نفسه الكريمة ويقدسها، ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون، تعالى وتنزه وتقدس عن قولهم علواً كبيراً، ولهذا قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏سبحان ربك رب العزة‏}‏ أي ذي العزة التي لا ترام ‏{‏عما يصفون‏}‏ أي عن قول هؤلاء المعتدين المفترين، ‏{‏وسلام على المرسلين‏}‏ أي سلام اللّه عليهم في الدنيا والآخرة، ‏{‏والحمد للّه رب العالمين‏}‏ أي له الحمد في الأولى والآخرة في كل حال، عن قتادة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا سلمتم عليَّ فسلموا على المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم مرسلاً ورواه ابن أبي حاتم مسنداً عن أبي طلحة رضي اللّه عنه‏.‏‏"‏‏.‏ وعن أبي سعيد رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ أنه كان إذا أراد أن يسلم قال‏:‏ ‏(‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد للّه رب العالمين‏(‏ ثم يسلم ‏"‏أخرجه الحافظ أبو يعلى، قال ابن كثير‏:‏ إسناده ضعيف، أقول‏:‏ وله ما يؤيده من الشواهد الصحيحة‏.‏‏"‏، وروى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم‏:‏ ‏{‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد للّه رب العالمين‏}‏‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم مرسلاً، وروي موقوفاً عن علي رضي اللّه عنه‏.‏‏"‏‏.‏ وقد وردت أحاديث في كفارة المجلس‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، قال ابن كثير‏:‏ وقد أفردت لها جزءاً على حدة، وللّه الحمد والمنة‏.‏